فصل: الطرف الثامن في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا في صدر الإسلام إلى من في معناهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثامن في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا في صدر الإسلام إلى من في معناهم:

وكان الغالب في مكاتباتهم الافتتاح بأما بعد والتعبير عن المكتوب عنه بلفظ الوحدة، وخطاب المكتوب إليه بالكاف.
كما كتب الحجاج بن يوسف إلى المهلب بن أبي صفرة، وهو يومئذ نائبٌ عن الحجاج على بعض الأعمال والحروب: اما بعد، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي ويرجعون بعذرك، وذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح وتنسى القتلى ويجم الناس، ثم تلقاهم فتحتمل منهم مثل ما يحتملون منك من وحشة القتل وألم الجراح ولو كنت تلقاهم بذلك الحد لكان الداء قد حسم والقرن قد قصم، ولعمري ما أنت والقوم سواء، لأن من ورائك رجالاً وأمامك أموالاً، وليس للقوم إلا معهم، ولا يدرك الوجيف بادبيب، ولا الظفر بالتعذير.
وكما كتب المهلب إلى الحجاج مجيباً له عن ذلك.
أما بعد، فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجراً، ولم أحتج فيهم مع المشاهدة إلى تلقين. فذكرت أني أجم القوم، ولابد من راحة يستريح فيها الغالب ويحتال المغلوب. وذكرت أن في الجمام تنسى القتلى وتبرأ الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم. يأبى ذلك قتل من لم يجن، وقروحٌ لم تعرق، ونحن والقوم على حالة، وهم يرقبون منا حالاتٍ، إن طمعوا حاربوان وإن ملوا وقفوا وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا ونتحر إذا وقفوا، ونطلب إذا هربوا، فإن تركتني فالداء بإذن الله محسوم، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعص وجعلت وجهي إلى بابك، وأنا أعوذ بالله من سخطه ومقت الناس.

.الطرف التاسع في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى الملوك ومن في معناهم على ما كان عليه مصطلح أهل المشرق:

وهو على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: أن تكون المكاتبة عن ملك إلى غير ملك:
ورسمهم أن يفتح الكتاب بلفظ كتابنا إليك في يوم كذا، ومن مكان كذا، والأمر على كذا وكذا ويذكر الحال التي عليها المكتوب عنه حين إذن أو التي عليها الخليفة إن كان المكتوب عنه من أتباع الخليفة، أو التي عليها الملك إن كان من أتباع الملك ونحو ذلك، ويكون التعبير في هذه المكاتبة عن المكتوب عنه بنون الجمع، والخطاب للمكتوب إليه بالكاف. ولا يقال في المكتوب إليه في هذه الحالة: سيدي ومولاي، ولا سيدنا ولا مولانا. وبذلك يكتب عن الملوك ومن في معناهم من سائر الرؤساء إلى المرؤسين.
ثم هو على مرتبتين: المرتبة الأولى أن يراعى جانب المكتوب إليه في الرفعة بعض المراعاة.
كما كتب أبو إسحاق الصابي عن صمصام الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، إلى الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد وزير فخر الدولة في الشفاعة في شخص من بعض ألزامه: كتابنا آدام الله تأييده الصاحب الجليل كافي الكفاة وإن وثقنا من المسؤولين بالإيجاب والإجابة، ومن المأمورين بالامتثال والطاعة، فإنا نخص بكتبنا الصادرة عنا في المأرب العارضة لنا، من خصبت من كلا الفريقين نهضته إليها، وظهرت مثابرته عليها، وإذا انتهينا إليه آدام الله عزه في ذلك عددنا مع ما قدم الله عندنا من رتبته في الطبقة الأولى، وميزنا مع ما وفر الله علينا من طاعته عن الطبقة الأخرى، وأنسنا منه عادةً مشكورة في اتباع محبوبنا، والإسعاف بمطلوبنا، ليسلس لنا إلى مخاطبته قيادٌ يتقاعس عمن سواه، وتنبسط منا في مكاتبته أنامل تتجعد عمن لا يجري مجراه، ولا سيما إذا كان ذلك في مكرمة يطيب ثناؤها، ومنقبة يشاد بناؤها، والله يمده ويمدنا فيه من طيب السجايا، وصالح العطايا، بما هو الولي به، والحقيق بالشكر عليه.
وكتابنا هذا أدام الله عز الصاحب الجليل كافي الكفاة مبني على إذكاره بحق لنا رعيناه، وذمام من أجله أوجبناه، وذلك أسد لإحكامه وألزم لإيجابه، وأوكد لأسبابه، وقد عرف مكان أبي منصور يزداها دار بن المرزبان من خدمتنا، وموقعه في جملتنا، وتوفر حظه من جميل رأينا، وخالص اعتقادنا، ومن أوجه وسائله لدينا، التي أوجبت له ذلك علينا، أنا لا نزال عده عليه، من الاعتداد بإحسان الصاحب الجليل كافي الكفاة إليه، وإلى أبيه من قبله، والاعتراف بأنه أيده الله أبو عذرة صنعه، والسابق إلى الجذب بضبعه، ولمن كان أقرله من ذلك معروفٌ لا ينكر، ودخل من الثناء عليه في إجماع لا يخرق، فقد بين عن نفسه أنه ممن يطيق حمل المنن ويحسن مصاحبة النعم، ويستحق أن تقر عنده أسلافها، وتدر عليها أخلافها، إذ لم يذهله الربوع فيها عن التحيد من اصطرافها وانصرافها، ولم يلهه التوسط لها عن حياطة أطرافها وأكنافها، ومن لنا اليوم بالشكور الذي لا يغمط، والذكور الذي لا ينسى؟ والعليم بما يلزمه، والقؤوم بما يحق عليه. وأعلمنا حال قريبين له يقال لهما الفركان بن حرزاد، ورستم بن يزد، وأنهما تصرفا في بعض الخدمة تصرفاً تزايلا فيه عن نهج السداد، وسنن الرشاد، واقتضى ذلك أن طلبا بالتقويم والتهذيب، وولجا مضيق القصاص والتأديب، وأنه قد مضت لهما فيه مدةٌ طويلة في مثلها ما صلح المعاقب، واكتفى المعاقب، وسؤاله لهما، ومرادنا له فيهما، شفاعة الصاحب الجليل كافي الكفاة إلى مولانا الأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة في أن يسعهما العفو، ويدركهما العطف إما باستخدام يتطوقان به المنن، ويأذن لهما بانصراف إلى الوطن، وقد استظهرنا بكتاب كتبناه في أمرهما: هذا الكتاب يشتمل عليه، حتى إذا وجب أن يجعله الصاحب الجليل كافي الكفاة ذريعةً إلى الغرض، ومطيةً إلى المقصد، أمضى في ذلك رأيه، وعقد عليه تدبيره. فإن رأى الصاحب الجليل أن يتوصل في هذا الأمر إلى ما يشاكل عادته عندنا في الأمور الواردة عليه فعل، وتوخى في الجواب أن يكون متضمناً لذكر الفعل دون القول، والإنجاز دون الوعد، إن شاء الله تعالى.
وكما كتب الصابي عن صمصام الدولة المقدم ذكره، إلى الصاحب بن عباد أيضاً في حالة أخرى، بسبب رد إقطاع إلى أبي جعفر محمد بن مسعود قرين كتابٍ إلى فخر الدولة: كتابنا والسلامة لدينا راهنة، وعادة الله لإقرارها ضامنة، والحمد لله رب العالمين، والصاحب الجليل كافي الكفاة أدام الله تأييده يعلم أنه لم يزل لممالكنا أفنيةٌ تقام بها أسواق المكارم، وتحيا بها سنن المحامد، وقد جعله الله بتفضله الحافظ لجمال ذلك علينا، والضارب بسهمه فيه معنا، فالحمد لله على أن قرن الحظوظ التي خولنا، والمنازل التي نولنا، بالخلائق الخليقة بها، الداعية إلى استقرارها، والطرائق المطرقة إلى ثباتها واستمرارها، وأن زان أيامنا هذه الحاضرة، بآثار الصاحب كافي الكفاة أدام الله عزه فيها الناضرة ومساعيه الرشيدة، وأفعاله المستقيمة، وأحاديثه الجميلة، وإياه نسأل أن يجرينا وكل ناصح على أفضل ما عودنا وأحسن ما أولاه ومنحنا بقدرته.
وإذا كان مولانا الأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة، وفلك الأمة، بالمحل الذي أهله الله له، من استعذاب الإحسان إلى أوليائه، وافتراض الإفضال على نصحائه، وكان الصاحب الجليل بالحال التي هو بها من القيام بما حمل به المناب فيه عنه، فقد وجب أن تكون الرعاية لذوي الحرمات مستحكمة الأسباب، ثابتة الأطناب، واضحة الأعلام، ماضية الأحكام، ولا سيما فيمن تعلق منا بالعناية، وأخذ من ذمامنا بالوثيقة، وأبو جعفر محمد بن مسعود أيده الله جامعٌ للموات، التي يستحق بها اجتماع العنايات، سالفاً صالحاً في الخدمة، وسابقةً متمكنة في الجملة، واشتمالاً على كل ما وجبت به الحقوق، ولزمت به الرعايات. وذكر أنه كانت له بنواحي الجبل تسويغاتٌ ومعايش أنعم بها مولانا الأمير السيد فخر الدولة عليه في حالٍ بعد حال، وشرفه بها في مقام بعد مقام، منها كذا وكذا، وإذا جمع الجميع كان قليلاً في جنب ما يفيضه مولانا الأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة، وفلك الأمة على خدمه، من جليل عوارفه الجارية على يد الصاحب الجليل كافي الكفاة أدام الله تأييده، والواصلة إلى مستحقيها بلطيف توصله، وجميل معتقده. وكان موقعه جليلاً عند أبي جعفر محمد بن مسعود أيده الله في جنب ما يصلح من شأنه، ويقيم من جاهه، ويرب من معايشه، ويلم من حاله. وقد كتبنا إلى مولانا في ذلك كتاباً مجملاً قصرناه على الرغبة إليه، في رد هذه المعايش عليه، وعولنا على الصاحب الجليل في إخراج أمره العالي بذلك له، وإحكام المناشير والوثائق بجميعه، والتقدم بمكاتبة العمال والولاة بتقوية أيدي أصحابه، في استيفاء ما يجب من الأسلاف والبقايا، على الأكرة والمزارعين، والوكلاء والمعاملين، وتأكيد الكتب بغاية ما تؤكد به أمثالها، ويبلغ به أبو جعفر محابه كلها. فإن رأى الصاحب الجليل أن يأتي في ذلك كله ما يجده ويعده ويرعاه ويحفظه، جارياً على المألوف من مثابرته على ما عاد علينا وعليه معنا بطيب الذكر والبشر، وثناء اليوم والغد، فقد أنفذنا بهذا الكتاب ركائب لنا دلالة على خصوص متضمنة في تعلقه بالاهتمام منا، فعل إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني: أن تكون المكاتبة من ملك إلى ملك:
ورسمهم في ذلك أن يفتتح الكتاب بلفظ: كتابي والأمر على كذا وكذا، ويؤتى بالتعبير عن المكتوب عنه في أثناء الكتاب بلفظ الإفراد دون الجمع، وهنا يفخم شأن المكتوب إليه، فيعبر عنه بمولاي وسيدي، ومولانا وسيدنا، ونحو ذلك.
ثم هو على مراتب: المرتبة الأولى أن يكون المكتوب إليه ملكاً أيضاً فيخاطبه على قدر مقامه بالسيادة أو غيرها مع الدعاء بما يناسبه، من طول البقاء ونحوه، ثم تارة يقع التعرض فيها بذكر الطلب وبرفع الحال التي هو عليها، وتارة لا يقع التعرض إلى ذلك كما كتب أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن معز الدولة، بن بويه، إلى عضد الدولة بن بويه في طلب الصلح، وقد جرى بينهما اختلافٌ.
كتابي أطال الله بقاء مولانا الملك الجليل المنصور عضد الدولة من العسكر بظاهر سوق الأهواز، ومولانا أمير المؤمنين مشمولٌ بالكفاية والتأييد، مخصوصٌ بالعز والتمكين، يجري على أفضل ما عود الله خلفاءه في أرضه، وأحباءه في رعاية خلقه، من التكفل لهم بالإظهار والإدالة، وتوليم بالإعلاء والإنافة، وأنا مستظلٌ بكنف طاعته، مستكنٌ في حرم مشايعته، شاكرٌ لله على بلائه، مثن عليه بآلائه، راغبٌ إليه أن يعصمني في مولانا الملك الجليل المنصور وفي نفسي من كل مكروه ومستهجن، ويوفقني وإياه لكل مستحبٍّ ومستحسن، ويعيذنا من المقام على الفرقة، والزوال عن سنن الألفة، وهو المحمود رب العالمين.
والحقوق بين مولانا الملك وبيني فيما قررته منا اللحمة، وأكدته العصمة، وأثلته الأسلاف، ونشأت عليه الأخلاف، حقيقةٌ بأن لا تتسرع إليها دواعي النقض، ولا تتمكن منها ملمات النسخ، ولا يتم للشيطان عليها ما يحأوله بنزغه، ويتوصل إليه بكيده، وأن تنزاح العوارض عنها، وتضمحل دون التأثير فيها، وأن تعتقد جميعاً أن بتقارضنا رعايتها ثبات النعم المتصلة بها، فلا يستنكف مستنكفٌ منا أن يخفض جناحه لأخيه، ويغض من جماحه في مقاربة ذويه، إذ كان ذلك حامياً له في أهول الأحوال مما هو أشد خفضاً، وأبلغ رضاً، وأسوأ مغبة، وأنكر عاقبة.
وقد علم مولانا الملك المنصور بالثاقب من تأمله، والصحيح من تمييزه وتدبره، أن دولتنا حرسها الله مبنيةٌ على أس الترافد والتعاضد، موضوعةٌ على قاعدة التوازر والتظافر، وأن مشيختنا وسادتنا رضوان الله عليهم جعلوا الائتلاف رتاجاً بين الأعداء وبينها، ثم إن مفتاحه هو الخلاف المتطرق لهم عليهم، ولو حدث التنافر في أيام أضعفنا منة، وأوهبنا عقدة، وأحدثنا سناً، وأقلنا حنكة، لكان ذلك أقل في التعجب من أن يعرض في رياسة أحصفنا رأياً، وأسدنا تدبيراً، وأوفانا حلماً، وأكملنا حزماً. وقد تكررت أيد الله مولانا على ذات بيننا قوارص احتقرناها حتى امتلأ الإناء من قطرها، واستقينا منها على العظيمة التي لا ثواء بعدها، وما أعود على نفسي بلوم في ابتداء قبيح ابتدأته، ولا بمركب شنيع ركبته ولا حق اطرحته، ولا استصلاح تركته، ولا أدفع مع ذلك أنني قابلت لما تضاعف بالأقل الأيسر، وجازيت لما ترادف بالأدون الأنزر، إلا أني ما آثرت كثيره ولا قليله، ولا اخترت دقيقه ولا جليله، لكنه لم يصلح في السيرة وقد أشفينا على التزاحف للحرب، والتدالف للطعن والضرب أن استعمل ما كنت عليه من توفية الحقوق، وإقامة الرسوم، فيراني الأولياء الذين بهم تحمى البيضة، وتحاط الحوزة، متناقض الفعلين، متنافي المذهبين، وكنت في ذلك الفعل الذميم، والرأي الذي ليس بمستقيم، مقتدياً لا مبتدياً، ومتبعاً لا مبتدعاً. ولو وقف بي مولانا الملك الجليل قبل أواخر الجفاء، وعطف معي إلى أول شرائع الصفاء، لكانت عريكتي عليه ألين، وطريقه إلى ارتباط طاعتي وولائي أقصد، لكنه، أيده الله، أقام على ما لا يليق به من مجانبتي ومغالطتي، وبث الحبائل لي ودس المكايد إلي، ومتابعته الجواسيس والكتب إلى الأولياء في عسكري الذين هم أولياؤه، إن أنصف وعدل، ونصحاؤه، إن أحسن وأجمل.
وكان الأشبه بمولانا لو كنت الغالط عليه، والباعث لهذه الأسباب إليه، أن يسوسني سياسة الحكيم، ويستخلصني استخلاص الكريم، إذ كنا لم نقدمه معشر أهل البيت علينا، ونوله أزمة أمورنا، إلا ليأسوا جروحنا، ويجبر كسورنا، ويتعهد مسيئنا، ويستميل نافرنا، فأما أن يحأول منا استباحة الحريم، وإركاب المركب العظيم، فكيف يجوز أن تدوم على هذا طاعة، أو تصلح عليه جماعة أو يغضي عليه مغض، أو يصفح عنه صافح؟ وكان من أشد هذه الجفوة وأفظعها، وأقساها وأغلظها، أن عاد رسولي من حضرته خالياً من جواب بما كتبت إليه، وما أعرف له أيده الله في ذلك عذراً يبسطه، ولا سلك منه السبيل التي تشبهه، وبالله جهد القسم ومنتهاها، وأجلها وأوفاها، لقد سار مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وسرت إلى هذا الموضع، واعتقادنا لا يجاوز حفظ الحدود والأطراف، وحياطة النهايات والأكناف، والأغلب علينا أن مولانا الملك أدام الله تأييده لا يتجاوز معي المعاتبة اللطيفة، والمخاطبة الجميلة، والاستدعاء مني لما يسوغ له أن يطلبه ولي أن أبذله، من تعفية السالف، وإصلاح المستأنف، وتوفية للحق في رتبة لا أضن بها عليه، ولا أستكثر النزول عنها له، وتقرير أصل بيننا يكون أيده الله به معقلاً لي وموئلاً، وأكون نائباً له ومظفراً إلى أن بدأ الأصحاب بالعيث في هذه البلاد، وألحوا عليها بالغارات، واعتمدوها بالنكايات، وكان هذا كالرشاش الذي يؤذن بالانسكاب، والوميض الذي يوعد بالاضطرام، وأوجبت قبل المقابلة عليه والشروع في مثله في حق مولانا الملك الجليل، الذي لا أدع أن أحفظ منه ما دعاني إلى إضاعته، وأتمسك بما اضطرني إلى مفارقته، أن أقدم أمام الالتقاء على الحرب التي هي سجال كما يعلم، إبلاغ نفسي عذرها، وإعطاء المقادة منها، داعياً له إلى طاعة الخالق والإمام، وصلة اللحم والأرحام، وحقن الدماء والمهج، وتسكين الدهماء والرهج، وثني العنان عن المورد الذي لا يدري وارده كيف يصدر عنه، ولا يثق بالسلامة منه، وتعريفي ما يريده مني لأتبعه ما لم يكن ثالماً لي، وعائداً بالوهن علي، والله الشاهد على شهادةٍ قد علم إخلاصي فيها، وسماحة ضميري بها، وأنني أكره أن أنال منه، كما أكره أن ينال مني، وأتألم من أن أظهر عليه، كما أتألم أن يظهر علي، وأحب أن يرجع عني وأرجع عنه، وقد التقت قلوبنا، وتألف على الجميل شملنا، وطرفت أعين الأعادي عنا، وانحسمت مطامعهم فينا، فإن فعل ذلك فحقيقٌ به الفضل، وهو لعمر الله له أهل، ولا عذر له في أن لا يفعله، وقد وسع الله ماله، ووفر حاله، وأغناه عما يلتمسه الصعلوك، ويخاطر له السبروت، وجعله في جانب الغنى والثروة، والحزم والحيطة، وإن أبى فكتابي هذا حجةٌ عند الله الذي تستنزل منه المعونة وعند الناس الذين تلتمس منهم العصبية، وقد أنفذت به إسفندار بن خسرويه وإبراهيم ابن كالي، وهما ثقتاي وأميناي، ليؤدياه ويشافهاه عني بمثل متضمنه ونجواه، والله يعيذنا في مولانا الملك الجليل من أن يختار إلا أولى الأمرين وأليقهما بدينه ومروءته، وهو ولي ما يراه في الأمر بتعجيل الإجابة بما أعمل عليه، وأنتهي بالتدبير إليه، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثالث: أن تكون المكاتبة عمن دون الملك إليه:
ورسمهم فيه أن يبتدأ بلفظ كتابي، والدعاء للمكتوب إليه بطول البقاء ونحو ذلك، ويخاطب في أول الكتاب بمولانا الملك السيد الأجل، وفي أثناء الكتاب بالسيد والملك ونحو ذلك، ويعبر عن المكتوب عنه بلفظ الإفراد: كما كتب أبو إسحاق الصبي عن الأمير نصر خوزة فيروز بن عضد الدولة إلى ابن عمه شرف الدولة يذكر له حاله مع أخيه صمصام الدولة.
كتابي أطال الله بقاء مولانا الملك السيد الأجل، شرف الدولة، وزين الملة، والسلامة لي شاملةٌ بما مده الله تعالى علي من ظله الظليل، ورأيه الحسن الجميل، والحمد لله رب العالمين. وقد تأدى إلى مولانا الملك السيد من أخباري ما أستغني به عن تطويل المفصل، وأكتفي به عن إجمال المجمل، وذلك أن أسفار بن كردويه وعبد العزيز بن برسف الكافرين لنعماء الله ونعمة الملك السعيد عضد الدولة أبينا رحمة الله عليه قبلنا، الغامطين لما نظاهر عليهما من إحساننا وإفضالنا، هجما علينا بخدعة تظافرا عليها، وشبهة جذباني إليها، وأبرما كذباً من القول لم أظنهما يقدمان على مثله، ولا يتفوهان باطلاً به، فأصغيت إليهما إصغاء الواثق بهما لا المنخدع لهما، فلما أنزلاني على حكمهما، وأوثقاني بحيث لا أستطيع مخالفتهما، ظهرت الحيلة، ووضحت الغيلة، وفاتني الاختبار، وغلبني المقدار، فجرى ما كانت عاقبته خذلان الله إياهما، وإنزاله بأسه ونقمته عليهما، وخلاصي بسلامة الصدر، واتضاح الغدر، من حبائلهما المنصوبة، وأشراكهما المبثوثة. ولما حصلت في كنف الملك السيد صمصام الدولة أقالني العثرة، وقبل مني المعذرة، وأحلني من داره وحماه بحيث لم أعدم عادة، ولا انقطعت عني مادة، وكانت الحال توجب مقامي فيها إلى أن تتعفى آثار الفتنة التي أثارها ذانكما الخبيثان الجانيان.
ثم ورد فلان في الرسالة، وتمم الله على يده عقد الصلح والمسالمة، فأخرجت عن الاحتجاب إلى الظهور، وعن الاحتجار إلى البروز، وأنزلت من الدار المعمورة في جانب يصل إلي منه سيب وصوله على العموم دون الخصوص، وعاملني الملك السيد صمصام الدولة بما يليق بفضله متبعاً، في ذلك مقاطعة السيف بينه وبيني، وطاعة مولانا الملك السيد الأجل شرف الدولة في أمري، وجدد عندي من الإنعام والتوسعة والإيثار والتكرمة آخراً ما شفع تلك الشفقة أولاً، ولقيني فلان دفعات، وشافهني مرات، وتحمل عني إلى مولانا الملك موالاتي الشكر كثيراً، واعتداداً طويلاً عريضاً، ودعاءً، الله يسمع مرفوعه، ويجيب مسموعه، بمنه وقدرته، وحوله وقوته.
و الآن فإذ قد جمع الله الكلمة، ووكد الألفة وحرس النعمة، وحصن الدولة وأخرج عنها من كان يشب الفتنة، ويسدي وينير في الفرقة، فإني واثقٌ بالله جل وعز وبما تترقى الحال إليه في غاية محبوبي، ونهاية مطلوبي، وأقاصي ما تبلغه أمنيتي، وتسمو إليه همتي، وتقتضيه أخوتي وعصمتي، ولله المشيئة، ومنه المعونة، فإن رأى مولانا الملك السيد أن يسكن إلى سكوني، ويطمئن إلى طمأنينتي، ويجري إلي غاية فضله وطوله في الأمر الذي أحسن فيه وأجمل، ليشملنا إنعامه، ويتظاهر علينا امتنانه، وأستوفي بقية حظي من ثمرة ذلك وعائدته، وجدواه وفائدته، ويأمر بتشريفي بكتابه، وتأهيلي بجليل خطابه، وتصريفي بين أمره ونهيه، فعل، إن شاء الله تعالى.